القائمة الرئيسية

الصفحات

الباكالوريا في تونس - التلميذ بين الضغوطات الموضوعية والمفاوضات الذاتية



امتحان الباكالوريا في تونس: بين الضغوطات الموضوعية والمفاوضات الذاتية

الباكالوريا في تونس - التلميذ بين الضغوطات الموضوعية والمفاوضات الذاتية

تقديم

منذ الاستقلال (1956)، نصّبت الدولة التونسية نفسها الفاعل الرئيسي والوحيد القادر على القيام بمهمّة بناء المجتمع الحديث. ولتحقيق هذا الغاية، تركّز اهتمام الدولة على التعليم. فاحتكرت لنفسها الفعل التربوي وعملت منذ البداية على تنظيمه وضبطه بواسطة ما يسمّى بالنظام التربوي. ومن أهم المسائل التي اهتم بها هذا النظام "الامتحانات الوطنية"، ولعل أبرزها "امتحان الباكالوريا". وما يميّز هذا الامتحان عن بقية الامتحانات الوطنية، أهميّته في تحديد المصير الاجتماعي للممتحن. لذلك يعيش تلميذ الباكالوريا خلال هذه الفترة، جملة من الضغوطات الداخلية (القلق، الخوف، الإرتباك...) والتي ترتبط عادة بمفهومي النجاح والاخفاق وما يصاحبهما من ردود أفعال المحيطين به. وفي هذه المقالة سنحاول الإجابة عن جملة الاشكاليات والتساؤلات المحيطة بظاهرة "الباكالوريا" وسنركز على العناصر التالية:

·         الباكالوريا والمصعد الاجتماعي

·         الضغوطات النفسية والاجتماعية التي يتعرض لها تلميذ الباكالوريا

·         كيف نحافظ على التوازن النفسي للتلميذ الممتحن.

·         قراءة نقدية لنظام الامتحانات في تونس.

1. أهمية شهادة الباكالوريا في المصعد الاجتماعي

يستمدّ المجتمع التونسي قوّته من العنصر البشري. فراهن منذ البداية على التعليم من أجل خلق طاقات فكرية وعلمية قادرة على الرقيّ بالمجتمع في جميع المجالات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية. وعلى هذا الأساس، تظافرت جهود كل الفاعلين في تربية من أجل التأسيس لنظام تربوي يولي الأهميّة لعمليتي التعليم والتعلّم. وتتفرّع عن هذا النظام جملة من الأنظمة الفرعية، لعلّ أبرزها على الإطلاق" نظام الامتحانات". وما يميّز هذا النظام، أنّه نظام إشهاديّ يمكّن الممتحن من شهادة وطنية في حالة نجاحه في الامتحان الوطني.

تعتبر الباكالوريا من أهم الشهائد العلمية التي يتوّج بها التلميذ بعد ثلاث عشرة سنة من التعليم والتعلّم. حيث تمكنه من الدخول إلى الجامعات والمعاهد العليا والانخراط في الحياة العملية. ومن ثمّة، يعدّ الحصول على شهادة الباكالوريا مكسبا هاما للفرد. فيتدرج في المصعد الاجتماعي ويثبت نفسه كفاعل في المجتمع من خلال القيام بالعديد من الأدوار المهمّة التي ترفع شأنه العائلي والاجتماعي.

2. تلميذ الباكالوريا: الضغوطات النفسية والاجتماعية

تعدّ الباكالوريا أهم مرحلة في التعليم يمر بها التلميذ في تونس وفي العالم بصفة عامة. لذلك تكون رغبة التلميذ والعائلة جامحة في الحصول على هذه الشهادة. وباعتبارها السبيل الوحيد الكفيل بفتح الآفاق أمام الممتحن للدخول الى الجامعات والكليّات ومراكز البحث العلمي، يعيش التلميذ خلال هذه المرحلة جملة من الضغوطات التي تحد من قدراته الذهنية والفكرية.

1.2- انعكاسات امتحان الباكالوريا على نفسية التلميذ

يسهم التضخيم من قيمة شهادة الباكالوريا، من طرف جميع المتدخلين في العملية التربوية (الفاعلون في التربية، الإعلام بجميع أنواعه، العائلة...) في تحوّلها الى دراما، تكون انعكاساتها وخيمة على نفسية التلميذ الممتحن.

·         الخوف المبالغ فيه من النتائج السلبية التي يمكن أن يتحصل عليها بعد امتحانات الباكالوريا. والتكهّن بمصيره العائلي والاجتماعي في حالات الإخفاق.

·         الضغط النفسي الذي يعيشه طيلة الإعداد المادي لهذا الإمتحان. فيشعر بالتوّتر والارتباك، ممّا يولّد لديه نوعا من الضبابية أثناء فترة المراجعة.

·         باقتراب فترة الامتحانات، يكون انفعاليا وتكون ردود أفعاله عنيفة خاصة مع المحيطين به.

·         الشرود الذهني والإنزواء في الأماكن الهادئة، هروبا من المحيطين به خاصّة أفراد عائلته (عزلة نفسية).

·         تنعدم رغبته في ممارسة هواياته المفضلة (الرياضة، الموسيقى، شبكات التواصل الاجتماعي...).

·         مفاوضة التلميذ لذاته وتتولّد لديه جملة من التساؤلات البين- نفسية  ( هل قمت بالإعداد الجيد لهذا الامتحان؟ هل قصرّت في حق نفسي وفي حق عائلتي؟ هل سأتحصّل على شهادة الباكالوريا؟ كيف سيكون توجيهي الجامعي؟ كيف ستكون ردة فعل عائلتي في حال لم أوفّق في هذا الامتحان؟...

2.2- انعكاسات امتحان الباكالوريا على صحّة التلميذ

رغم أن البعض من تلاميذ الباكالوريا يمرّون بهذه المرحلة بأقل الأضرار النفسية والصحية والبدنية، فإنّ البعض الأخر تؤثر فيه وتخلق لديه أزمة ثقة في قدراته وإمكانياته التعليمية، فينعكس ذلك على صحّته البدنية.

·         الارهاق البدني والنفسي بسبب قلّة النوم، والاقتصار على ساعات قليلة من الراحة.

·         آلام جسدية، خاصة آلام الرأس من جرّاء طول ساعات المراجعة. لذلك يعمد التلاميذ إلى تناول العديد من المسكّنات.

·         انقطاع شهيّة الأكل، الأمر الذي يؤدي إلى الهزال وشحوب في الوجه.

·         الاعتماد على أنواع عديدة من المنبهات.

·         يتجاهل تلميذ الباكالوريا مظهره الخارجي وتقلّ رغبته في الاجتماع مع الآخرين (قطيعة مع العالم الخارجي).

3. العائلة وامتحان الباكالوريا

تحظى الباكالوريا باهتمام كل العائلات التونسية دون استثناء. لذلك تستنفر العائلة كل طاقاتها المادية والمعنوية من أجل هذا الحدث المهم. وتسعى إلى معاضدة مجهودات التلميذ بواسطة الدروس الخصوصية والدعم والعلاج. فتنفق الأموال الطائلة من أجل نجاح أبنائها. وهذا يعني أن كل العائلات تصاب في هذه الفترة بفوبيا الامتحانات الوطنية (الضغط النفسي، القلق، الخوف...). لماذا؟ لأنه بكل بساطة ، مازالت العائلة تعتبر شهادة الباكالوريا العنصر المحدد لمصير ابنها الاجتماعي والمهني.

4. كيف نحافظ على التوازن النفسي لتلميذ الباكالوريا ؟

يمكن أن نحقق التوازن النفسي لتلميذ الباكالوريا من خلال طريقة التعامل معه:

·  إقناعه بأن الباكالوريا هي مجرّد محطة تعليمية كبقية المحطات التعليمية التي يمرّ بها.

·       الابتعاد عن الاهتمام المفرط بتلميذ الباكالوريا لكي لا يشعر بأن سبب هذا الاهتمام هو في حقيقة الأمر نوعا من التضامن الضمني معه، وهذا ما يولّد لديه الشعور بالمسؤولية.

·         يسهم التداول المستور لموضوع الباكالوريا بين أفراد العائلة في شعور التلميذ بأن قيمته في العائلة تتحدّد انطلاقا من نتائجه في امتحان الباكالوريا.

·         المرافقة النفسية للتلميذ من خلال الابتعاد به عن الضغوطات التي تسببها المراجعة (مثلا: سهرة عائلية في فضاء اجتماعي مفتوح...)

·         السهر على راحته البدنية والفكرية (تمكينه من مكان هادئ في البيت للمراجعة وللنوم).

·         دعوته الى تقسيم الوقت والمراوحة بين المراجعة والترفيه.

·         في اليوم الأول من الامتحان وهو الأهم، تحاول العائلة التصرف معه ومعاملته مثل سائر الأيام الأخرى.

·         إشعاره قبل الخروج من البيت بعلامات الرضاء على ما قدمه خلال السنة الدراسية بقطع النظر عن النجاح أو الإخفاق وإظهار علامات الطمأنينة والهدوء من قبل الأب والأم خاصة.

·         أتركه يجمع أدواته ووسائله التعليمية بنفسه خاصة في اليوم الأول من امتحان الباكالوريا.

·         عند عودته، لا تسأله عن الامتحان وتظاهر بعدم الاكتراث.

·       يعمل أفراد العائلة على مساعدته، ليسترجع قواه الفكرية والذهنية والبدنية ( هذه العملية تكون طيلة أيام امتحانات الباكالوريا).

5. قراءة نقدية لنظام الامتحانات في تونس

يحتل النظام التربوي في تونس مكانة مرموقة في العالم. وأصبح مثالا يحتذى به في العديد من البلدان العربية والغربية. وهذا يعود إلى الخبرات التي يتمتع بها كل الفاعلين في الميدان التربوي. لكن ورغم هذه الميزات، يعاني هذا النظام من بعض الهنات وخاصة فيما يتعلق بنظام الامتحانات الوطنية.

من المعروف أن النظام التربوي التونسي هو نظام إشهادي. حيث تتوّج كل مرحلة من التعليم بامتحان وطني يحدّد نسب المرتقين من مرحلة إلى أخرى. ومن أبرز هذه الامتحانات الوطنية، امتحان الباكالوريا. وما يعاب على نظام الامتحانات في تونس، أنّه يحدّد مصير الممتحن الاجتماعي والمهني خلال ستة أيام، وهذا غير معقول بالنظر إلى الظروف التي قد يمر بها التلميذ خلال هذه الفترة. كما يعتمد النظام التربوي طريقة التلقين من خلال عمليّة إعطاء المعلومة ثم استرجاعها فيما بعد عن طريق الامتحان. وهذه العملية سلبية جدّا، لماذا؟ لأنها تقضي على الابداع والخلق والابتكار عند التلميذ. ومن الأفضل أن نعلّم التلميذ طريقة البحث عن المعلومة من خلال السماح له أثناء الامتحان باستعمال كل ما يراه صالحا من الوثائق والمستندات المكتوبة والرقمية. ولسائل أن يتساءل كيف تكون عملية التدريس؟ تكون عملية التدريس بواسطة تقسيم برنامج المادّة إلى مشاريع والعمل على تنفيذها داخل القسم وخارجه (عمل جماعي وعمل فردي). ومن ثمّة، نخلّص هذه الأجيال من عقدة اسمها "الباكالوريا" ونفتح أمامها آفاق البحث العلمي الذي سيسهم حتما في تقدّم تونس وازدهارها.

خلاصة

وهكذا تبقى شهادة الباكالوريا مطمحا للممتحن وللعائلة، لأنها السبيل الوحيد الذي يمكّن التلميذ من الدخول الى الجامعات والمعاهد العليا وتحقيق طموحاته الاجتماعية والمهنية. وفي هذا السياق تتظافر جهود كل الفاعلين في ميدان التربية من أجل توفير الظروف الملائمة لينخرط التلاميذ في هذه العملية التربوية رغم الصعوبات النفسية والاجتماعية التي تعترضهم.







هل اعجبك الموضوع :
author-img
Arbi Jabli, chercheur en sociologie et spécialiste en sciences de l'éducation

Commentaires