القائمة الرئيسية

الصفحات

السّلام العالمي - الموجود والمنشود



السّلام العالمي - الموجود والمنشود

السّلام العالمي - الموجود والمنشود

مثّلت نهاية الحرب العالمية الثانية بداية التخلّص من الدمار الشامل الذي عاشته الانسانية. وقد تعزّز طموح الشعوب في بناء علاقات دولية قويّة تقطع مع الماضي وتؤسس لعالم جديد يقوم على التعاون والتضامن والتكاتف، خاصة بعد تجاوزها بسلام مخلّفات الحرب الباردة وما صاحبها من تهديدات وقطع للعلاقات بين دول العظمى، التي تتنازع وتتناحر من أجل بسط نفوذها على العالم (المعسكرين الشرقي والغربي). ومن ثمّة، أصبح تحقيق السلم والأمن الدوليين ضرورة ملحة والمطلب الرئيسي لمختلف الشعوب والأمم.

 في بداية تسعينات القرن الماضي، أصبح السّلام الدولي موضوع بحث ومتابعة من قبل المجتمع الدولي واستأثر خاصة باهتمام الهيئات الأممية ومنها هيئة الأمم المتحدة. فإلى أيّ مدى يمكن أن يتحقّق السّلام العالمي؟ وللإلمام بموضوع بحثنا، نطرح الأسئلة الفرعية التالية: ماذا نقصد بالسّلام العالمي؟ هل بالفعل تعيش الشعوب العالمية في كنف السلّم والأمن والاجتماعيين؟ أم هناك سلم خاص بالعالم النامي وآخر خاص بالعالم المتقدّم؟ كيف يمكن أن يرتقي مفهوم السّلام إلى مرتبة العالمية؟ ما تأثير نظريات السّلام العالمي على صفته الكونية والشمولية؟

1. مفهوم السّلام العالمي

السّلام العالمي هو حالة من الاستقرار والأمن والسلم التي تعيشها المجتمعات المحلية والدولية. ويرتبط هذا المفهوم بجملة من المفاهيم الأخرى التي تبرز مدى قيمة السلّم والسّلام في المجتمعات المعاصرة: التضامن والتعاون والمسالمة ونبذ العنف المادي والمعنوي. فالسّلام العالمي هو باختصار ميثاقا بين جميع دول العالم وخاصة الدول الدائمة العضوية في مجلس الأمن، التي يلزمها هذا الميثاق بأن تنتصر للحرية والديمقراطية والتسامح والأمن والأمان والسّلم والسّلام، ويكون هذا بإشراف الهيآت الأممية.

2. النسق التاريخي لتطور مفهوم السّلام العالمي

تشكّل هذا المفهوم عبر عدة محطات تاريخية صعبة مرّت بها الإنسانية. فقد كانت بداية تبلوره كمفهوم عالمي نهاية الحربين الأولى والثانية. غير أن السّلام العالمي لم يرتقي في هذه الفترة إلى الدرجة التي أنشيء من أجلها، وهي تخليص الشعوب من آثار هذه الحروب ومخلّفاتها الاجتماعية والاقتصادية والأمنية. لكن بعد انتهاء الحرب الباردة بين المعسكرين الشرقي والغربي، استعاد هذا المفهوم فاعليته ودوره الريادي في التصدّي للمخاطر والكوارث التي أصبحت تهدّد الوجود الإنساني، ولعلّ أبرزها على الإطلاق الحروب النووية. وقد تعزّز مفهوم السلم العالمي إثر الأحداث الإرهابية في 11 سبتمبر 2001، فتطوّر هذا المفهوم من مجرّد ميثاق بين الدول، يناهض الحروب العسكرية إلى مفهوم شامل يهتم بكل القضايا الانسانية ومنها الإرهاب الدولي والصحّة والمناخ والحروب الأهلية والصراعات الاقليمية وغيرها من القضايا الانسانية الأخرى.

3. السّلام العالمي: الموجود والمنشود

راهنت الشعوب العالمية وخاصة شعوب البلدان النامية على المؤسسات الأممية من أجل ضمان حقها في تقرير مصيرها واحترام حدودها الجغرافية والتصرّف في ثرواتها الباطنية والطبيعية والثقافية وبسط سيطرتها عليها. كما طمحت هذه الشعوب إلى التعايش السّلمي بعيدا عن الصراعات الإيديولوجية والعرقية والفكرية والعسكرية. لكن هل فعلا تحقّق السّلم والسّلام في العالم؟ وإذا لم يتحقّق ذلك فكيف يمكن أن نفرض على الطامعين والحاقدين والأصوليين الالتزام بالمبادئ التي وضعتها الأمم المتحدة ليقوم عليها السّلم والسّلام العالمي؟

*السلام العالمي من المنشود إلى الموجود

رغم المجهودات التي تبذلها بعض الدول من أجل إنعاش السّلام العالمي وتفعيل الاتفاقيات الدولية حول نشر قيم التسامح والتعايش السلمي والتعاون ومواجهة الأزمات التي تتعرّض إليها المجتمعات المحلية والدولية، فإنّ هذا المفهوم لم يرتق إلى مستوى طموحات الشعوب، وخاصة تلك المنتمية للعالم النامي.

يشكو العالم اليوم من أزمات اجتماعية واقتصادية وبيئية وصحّية زعزعت استقراه وسلمه وأمنه، فأين التعاون والتضامن الذي يتحدث عنه المهتمون بالسّلام العالمي؟ يموت الآن الألاف بل لنقل الملايين بسبب فيروس كورونا فأين منظّمة الصحة العالمية؟ يعاني أكثر من ربع سكان العالم الفقر المدقع فأين البنك العالمي للتنمية؟ تنامت في العقود الأخيرة ظاهرتي التهريب والتجارة الموازية ممّا أثّر سلبا على الاقتصاديات العالمية، فأين منظّمة التجارة العالمية؟ تعاني أنظمة البلدان النامية من انهيار صارخ في أنظمتها التربوية ممّا أسهم بدرجة كبيرة في تزايد عدد المنقطعين عن الدراسة، الأمر الذي أدّى إلى تنامي ظواهر خطرة قد تعصف بكيانها، على غرار تجارة المخدرات والجريمة المنظمة والهجرة السرّية وغيرها من الظواهر الأخرى، فأين منظمة اليونسكو واليونيسيف؟ كما استفحل الارهاب بجميع أنواعه في جميع الدول، فانتشر الخوف والرعب والتوتّر بسبب غياب السلم والأمن الاجتماعيين، فأين مجلس الأمن؟ رغم الاستقلال الذي تحصّلت عليه الدول التي كانت مستعمرات للدول العظمى، فإنها في حقيقة الأمر مازالت تحت الوصاية، حيث تنتهك سيادتها وتنهب ثرواتها الباطنية والبترولية تحت غطاء ما يسمّى بعقود الاستثمار والشراكة، فأين حقّ الشعوب في تقرير مصيرها؟

بناء على ما تقدّم، يظهر جليّا أنّه لا يوجد ما يسمّى بالسّلام العالمي، حيث تعيش أغلبية الشعوب في كنف دول ودويلات تتمّ قيادتها وتسييرها من خارج حدودها الجغرافية من طرف الدول العظمى. وقد أدّى هذا الاستعمار المقنّن أو بالأحرى الاستعمار الخفيّ إلى التعدّي على هذه الشعوب وحرمانها من تقرير مصيرها الاجتماعي والاقتصادي والسياسي والأمني. وعلى هذا الأساس فإنّ مفهوم السّلام العالمي في حاجة إلى المراجعة لأنّه لا يمتّ للسلم والسلام بصلة. فهو ضرب من ضروب الخيال والمغالطة الذي تعتمده القوى الامبريالية كغطاء لتمرير سياساتها الاستعمارية.

*السلام العالمي من الموجود إلى المنشود

راهنت المجتمعات النامية على الأمم المتحدة من أجل نشر السلم والسّلام والأمن والعدل في العالم. غير أنّ الوضع الصعب والمتأزّم الذي أصبحت تعيشه أغلبية شعوب العالم يفضح هذه الهيأة ويبرز مدى عجزها على تحقيق طموحات المجتمعات المحلية والعالمية. ومن هذا المنطلق أصبح السّلام العالمي مجرّد شعار لحمامة وغصن زيتون وتجرّد من مضامينه الانسانية. ذلك أنّ التزام دول المركز بمبادئ السّلام العالمي يعرّض مصالحها إلى الخطر، ومن ثمّة تسعى إلى إفشال هذا المشروع العالمي حتّى تسهل عملية فرض سلطانها على العالم.

رغم الصعوبات والعوائق التي تحيل دون تحقيق السّلام العالمي بمفهوميه الشمولي والانساني، فإنّه في الحقيقة ليس بالأمر المستحيل. ذلك أنّ تفعيل أدوار الأمم المتحدة وضمان استقلاليتها وشفافيتها في التعامل مع المسائل والقضايا العالمية وابتعادها عن المحسوبية ومحاباة الدول العظمى على حساب دول العالم النامي، قد يخلق توازنا بين العالم المتطوّر والعالم النامي الذي مازال في طور التشكّل. كما أنّ نشر الوعي داخل المجتمعات المحليّة من أجل التمسّك بحقها في تقرير مصيرها السياسي والاقتصادي والاجتماعي دون وصاية من القوى الاستعمارية قد يكون له الأثر البالغ الأهميّة في تحطّم طموحات أعداء السّلام العالمي.

إنّ تحقيق السّلام العالمي يمرّ حتما عبر القضاء على فساد وتخاذل الحكام والمسؤولين المحلّيين وخضوعهم لقوى الاستعمار الجديد التي تنصّب الرؤساء والحكام الموالين والداعمين لطموحاتهم الجيوسياسية والجيو اقتصادية. ويمكن أن نستفيد من الدعم غير المشروط للدول المتقدمة والمسالمة من أجل بناء مجتمعات صلبة تكون درعا أمام المخاطر التي تهدّد الوجود الانساني (الإرهاب الدولي، التلوّث البيئي، الأمراض المستجّدة، الصراعات الإيديولوجية...). يفرض الغياب شبه الكلّي للسلم والأمن الدوليين التسريع بمراجعة عمل هيأة الأمم المتحدة وتقييمه بهدف التشريع لقوانين دولية جديدة تمكنّها من فرض نفوذها على جميع دول العالم دون استثناء ودون مراعاة لمنطقي القوّة العسكرية والاقتصادية. وبذلك تسهل عملية إنعاش السّلام العالمي من خلال تظافر جهود جميع دول العالم للقضاء على الظواهر الخطرة التي أصبحت تهدّد السّلم والأمن الدوليين.

 



هل اعجبك الموضوع :
author-img
Arbi Jabli, chercheur en sociologie et spécialiste en sciences de l'éducation

Commentaires